آراء بعض الفنانين والنقاد عن أعمال الفنان خالد المز

الدكتور غازي الخالدي
عندما التقينا في القاهرة.. وعشنا معاً فترة الدراسة في كلية الفنون الجميلة أحسست من اللحظـات الأولى أنه أقلنا كلاماً هو خالد، وأكثرنا استماعاً هو خالد.. عندما كان يعجبه الموضوع، يبستم بهدوء.. وعندما لايرضى عن الفكرة المطروحة يقاتل بشراسة حتي يقذفنا أو حتى يلغي الفكرة من أساسها.. أنه لايتنازل عن قناعاته بسهولة..
وعندما يتعصب أحدنا إلى فان كوخ، أو إلى سيزان أو إلى جوجان كان خالد يرفض فكرة التعصب أصلاً.. ويصر ويؤكد أن المدارس الفنية التي جاءت بعد هؤلاء الثالثة المؤسسين كانت تكمل بعضها..
وكان يقول : لايأتي فن هكذا لوحده، من فراغ، ولاتأتي مدرسة فنية هكذا لوحدها من فراغ.. إن تاريخ الفن حافل بالقصص والحكايات التي تؤكد مسألة استمرارية المدارس، وتكامل الاتجاهات الفنية.. كل فنان يأخذ من تجارب قبله .. ويضيف عليها شيئاً ما من عنده .. وكان خالد المز من الذين كانوا بالفعل يأخذون من الذين سبقهم ويضيفون من عندهم.. ثم يستقلون بذاتهم..
واذكر وخالد يذكر أننا كلما اجتمعنا في شقتنا في الزمالك شارع بهجت علي، وتحدثنا عن الفن.. كنا نختلف أحياناً، وكنا نلتقي أحياناً أخرى.. ورغم كل محاولات أسعد فضة وعبد الرزاق عربي وعبد المجيد كركوتلي ، التدخل وإبداء الملاحظات الجانبية كل في اختصاصه، الأول في المسرح، والثاني في الموسيقى والثالث في عمل النفس والتربية.
كنا نخرج بحقيقة واحدة وهي أن هناك قواسم مشتركة مؤكدة بين جميع أنواع الفنون بمختلف اجناسها، كالفنون التشيكلية والفنون الحركية ( المسرح) والفنون السمعية ( الموسيقا والغناء ) والفنون التطبيقية.. والفنون المركبة، (سينما والتلفزيون).
كل هذه الفنون تلتلقي في عدة تقاط أساسية .. سواء في مسألة مفهوم التعبير، أو في مسألة مفهوم الإبداع، وتعريف الإبداع على أنه يتضمن ستة أمور هامة، أولها الحرية التي تجعل الفنان يحرر نفسه من كل مايختزن من تراكم معرفي مما رأى أو مما سمع أو مما قرأ أو مما شاهد ودرس ويقول لكل هذه المعارف: (لا) ليبدأ من نفسه وذاته ليعبر عن أسلوبه هو، وشخصيته هو . والأمر الثاني في مفهوم الإبداع هو التجديد، فهو شرط أساسي في أي عمل إبداعي، فالجدة هي الخروج من الماضي أو من المعارف المتكررة والمتداولة، إلى معرفة مختلفة، لها مواصفات غير تقليدية، غير مألوفة غير مستهلكة.. وهذا مانسميه بالجديد.
والأمر الثالث هو الذكاء.. فالفنان الذكي هو الذي يفكر وهو الذي يعرف كيف يتكيف بسرعة في أي محيط وضع فيه سواء مع الطبيعة أو مع الأشخاص أو مع الحياة بشكل عام أما الأمر الرابع فهو الخيال، إلى أن ذلك ضرورة أكيدة لكل فنان فالخيال هو الذي يعطي للعمل الفني احساساً ميتافيزيقيا وإسطوريا ويجعله فوق الحلم وفوق الواقع وفوق مايتعارف عليه الناس في حياتهم اليومية.. والخيال من ناحية أخرى يحقق التميز للعمل الفني ، حتى لايبقى صورة منسوخة أو مكررة عن الواقع أو عن الطبيعة.. الخيال يخرج الفن من المفهوم التوثيقي إلى المفهوم الجمالي.. أما الأمر الخامس فهو عنصر المفاجأة والدهشة والابهار كما قال ليوناردو دافنشي، إن الفن هو في الإبهار..
والإبهار لايأتي إلا من جمل عوامل أهمها أن يحمل العمل الفني مقومات مختلفة عن الواقع أو عن الطبيعة، بإسلوب متفرد ، وبرؤية خاصة ، يبتكرها الفنان ويصيغها صياغة شخصية جداً ليقدمها للناس، إلى أن تبهرهم وتدهشهم وتجعلهم يقفون أمام العمل الفني وعلى لسانهم هذه التساؤلات: ماذا.. كيف.. لماذا ومن أين ، وإلى أين؟
إن السؤال هو أول باب المعرفة، والسؤال هنا يحمل معنى الدهشة، والدهشة تعني التساؤل عن أسباب هذا التغيير في التعبير أو التغير في الأشكال أو في الألوان أو في الأداء.. المهم أن الاندهاش هو أول مايشد المتلقي وهو يقرأ اللوحة للوهلة الأولى وهذا بحد ذاته نقطة البداية في التقدير والإعجاب.
وأخيراً الأمر السادس هو التقنيات المستخدمة في اللوحة من طريقة التعامل مع الخامات المختلفة، الألوان، الملمس تمازجها، تعادلها، توازنها، تضادها تكاملها علاقة السطح بالخطوط ، علاقة الحجم والإبهام به بالمقارنة مع المنظورين الهندسي والهوائي.
كل هذه المعايير التي تشكل القيمة النظرية للإبداع لابد أن ترافقها جميعاً، مسألة الإخلاص والحب والعشق والصدق في ممارسة العمل الفني في جميع مراحل أدائه.. منذ اللحظة الأولى التي تخلق فيها الفكرة وتتحول إلى التأمل.. أو من التأمل إلى الفكرة ثم إلى التمثل ثم إلى الارتداد.. ارتداد التجربة من حيز التفكير إلى حيز الممارسة العملية والتنفيذ في اللوحة.. من كل هذا.. أين يقع خالد المز، وأين تقع تجربته الفنية العريقة التي امتدت سنوات طويلة منذ كان في اللاذقية طالباً، ثم معلماً ، ثم مديراً لمركز الفنون التشيكلية ثم دارساً للفن في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة..
أن من يستعرض أعمال خالد المز، منذ بداياته حتى اليوم يلاحظ كيف أن الخط البياني لأعماله مرتبط مباشرة بفكره وحياته وشخصيته.. فهي تعكس كل ذلك. من خلال تطور النضج الفكري والعاطفي الثقافي والتقني..
تعلم اللون تطور ألوانه تعلم التكوين فغير في فهمه ومعالجته للتكوين.. تعلم التقنيات المختلفة.. فأوجد لنفسه تقنيات خاصة به..
وهذا بالضبط ماقصدته في تعريف الإبداع، أي في تجاوز كل ماتعلمنا، وكل مادرسنا.. وكل ماقرأنا وسمعنا وشاهدنا..
كنت أمشي أنا وخالد من المنزل في شارع بهجت علي في الزمالك نتحدث ونحن في طريقنا إلى كلية الفنون الجميلة .. كان يقول لي أنما أحب سيزان لأنه لم يكن يحب أن يحاكي الطبيعة، ولم يقبل أن يكون أسيراً لها رغم مافي الطبيعة من جمال..
وكنت أسمع منه رأيه بالعمالقة المؤسسين الكبار أمثال يوتتشللي ورافائيلو وليناردو ومايكل انجلو وتيتسيانو وجو رجيوني.. كنا نجد في كل واحد من هؤلاء مايضيف الشيء الأهم والأغنى إلى تجاربنا وإلى معارفنا. وإلى ثقافتنا..
قال لي خالدمرة: لماذا أجد في لوحات موديلياني مالاأجده في لوحات روبيز في مسألة معالجة جسد المرأة فالأول هادىء، ساكن، والثاني متحرك، وانفعالي.. لدرجة الحركة الاستعراضية والمسرحية في عرض المرأة العارية من خلال قصص وحكايا عن الرجل والحصان والعنف.. الذي يصيب الرجل عندما تتمتع عنه المرأة.. بينما موديلياني رغم سكونه، وهدوء الأجساد التي يرسمها مستلقية، تكاد لاتجد فيها زي حركة انفعالية، او استعراضية.. تجد في لوحاته الإثارة، والأنوثة أكثر بكثير من روبنز لماذا؟ كل ذلك.
كان هذا الحديث يؤرقنا.. ويجعلنا نفمر ونبحث عن الأسباب ومن خلال هذا البحث تعلمنا الكثير الكثير خاصة عندما سألنا أساتذتنا عبد العزيز درويش وبيكار وممدوح عمار والبناني وعز الدين حمودة..
كنا نستمع إلى آرائهم بكل حب وبكل احترام وبكل تقدير وكنا نناقش ونبدي وجهة نظرنا ولكن لم نفكر يوماً أن نخالف أراءهم لمجرد ( خالف نتعرف) بل حتى تزداد المعرفة عمقاً عندنا، وحتى يزداد اليقين في ثقافتنا بأن لكل فنان اسلوبه ولكل فنان رؤيته، ولكل فنان طريقته في التعبير والتي يجب بالضرورة أن تختلف عن غيره من الفنانين الآخرين.
لذلك بدأ يتفرد خالد المز بألوانه الغنائية الكثيرة المتراكمة فوق بعضها حتى تشف الألوان بعضها فوق بعض.. هو لم ينقل من أحد ولم يحاول أن يقلد تجارب أحد من كل هؤلاء الذين تزخر بهم الحركة الفنية.. سواء في بلادنا أو في بلاد العالم أن المشكلة الحقيقية التي كنا نواجهها باستمرار، هو أين يقع عملنا الفني ضمن هذا البحر الكبير الذي نجده عبر تاريخ الفن.. بحر من الخبرات والتجارب والأعمال.. ليس له حدود.. ولاتحده آفاق..
ويتبادر إلى أذهاننا أحياناً فكرة يائسة تقول : كل شيء موجود.. لقد سبقونا في كل شيء.. لم يتركا لنا شيئاً لنعمله في الفن.. المدارس استنفذت كل الأفكار وكل المحاولات وكل التجارب..
ماذا نفعل ؟
أين نحن؟
وإلى أين نسير؟
طالما أن الدرب مغلق.. والطريق هي .. هي ليس فيها من جديد؟
وأخيراً ومن خلال الحوار، والعمل.، والسؤال والتساؤل مع الزملاء ومع الأساتذة ومع المراجع ومع المعارض ومع المتاحف خاصة منها متاحف الفن القديم..
اكتشفنا أماً هاماً جداً.. وهو أن كل فنان وما كان ومن أي زمان جاء.. لابد ن يكون له فنه الخاص وتجربته الخاصة، وعمله الذي يجب وربكل تأكيد أن يتميز عن أعمال كل هؤلاء عبر آلاف السنين من الفن عبر التاريخ منذ النحت والزخرفة والعمارة والتصوير الشوري والمصري القديم الفرعوني مروراً بالأغريقي والروماني والقبطي والاسلامي.
وعصر النهضة.. وفن الباروك وفن الروكوكو والفن اللهبي.. وحتى الفن المعاصر.. ومدارسه المختلفة من الانطباعي إلى التجريدي وإلى فن الأدب آرت والبوب آرت ومختلف الصرعات الفنية التي نقرأ عنها كل يوم من كالدر إلى فازاريللي إلى سريالية بوش وحتى سلفادور دالي وكوكوشكا.. وصرعات فونتانا..
كل هذا لايعني أن نقف مكتوفي الأيدي، مهما كانت دهشتنا كبيرة، والمفاجأة أكبر.. والصرعات مستمرة.. لابد أن نقف ونعود بهدوء إلى تاريخنا إلى تراثنا، وإلىحضارتنا.. إلى مخزون معرفي عميق الجذور ليس له مثيل في العالم أجمع.. ومنه نأخذ.. ومنه نتعلم.. ومنه نبدأ.. وهكذا بدأ خالد المر يعود بهدوء إلى عالمه الذاتي إلى وطنه.. إلى تراثه إلى حضارته .. رلى زبجديةأو غاريت إلي العالم الداخلي الذي سكن فيه الجمال الانساني.. فرسم المرأة كالحلم ، يتراقص بينم الألوان الشفافة. بجسدها الممشوق، وقدها المياس ونسبها الرشيقة.. وحركات المتناغمة غير المتكررة وغير المتناظرة..
وغير المألوفة.
إن عالم خالد المز في رسمه للمرأة العارية عالم الساحر الذي يحب الحياة والناس والخير لكل من يتعامل معه.. يرسم المرأة ليجعلنا نحبها ونعشقها نراها أمامنا وكأنها شمعة تذوب م أجل أن تزداد جمالاً وتزداد أناقة.. خاصة عندما يضعها مع بنات جنسها في أوضاع متكاملة. متجانسة.. يتخلل أجسادهن الضوء تارة واللون تارة أخرى.. كأنه يعوض عن تفاصيل تشريح جسد المرأة بمسحة من الشاعرية والرومانسية، الخاصة جداً والتي تمثلت في عدم رسم التفاصيل والجزئيات التي نراها في رسم المرأة العارية عند الكثير من الفنانين أنه يتجاوز الكثير الكثير من التفاصيل ليضع عموميات جمالية ويحول هذه الأجساد النسائية إلى قطع خرفية أو نحتية شفافة، متجانسة، لها نسبها الخاص، وشكلها الخاص، الذي تعمد فيه المبالغة أحياناً، والاستطالة أحياناً أخرى كأنه يريد أن يقول لنا : هذا الجسد الذي أحبه.
وهذا اللون الذي اخترته، وهذا الموضوع الذي اقدمه.. وهذا الاحساس الجمالي الشفاف الذي أؤمن به..
غازي الخالدي