آراء بعض الفنانين والنقاد عن أعمال الفنان خالد المز

الدكتور عبد المنان شما
الفنان الدكتور خالد المز:
اسم تردد على مسامعي منذ خمسين عاماً، وتعرفت عليه شخصياً في منتصف الستينيات لكنني عايشته عن قرب ولازمته منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فنحن أبناء جيل واحد، عاصرنا بعضنا البعض وتزاملنا التدريس في قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق منذ عودته من باريس عام ١٩٧٤ وحتى اليوم.
أكثر من نصف قرن مضى من الزمن خالد المز يرسم ويصّور وينحت بمختلف الأدوات وبشتى المواد، وشاءت الظروف أن يكون منزله قرب منزلي لفترة طويلة، ومرسمه بجوار مرسمي ..
وعملنا سوية في مناسبات عديدة، وأقمنا أنشطة فنية مشتركة في عدد من المحافظات السورية وفي كثير من البلدان العربية والأجنبية..
وهكذا عرفته وعايشته في السكن وفي المرسم وفي السفر وفي العمل بمشاغل الطلاب وقاعات الدرس، وفي إدارة الكلية ومختلف أنشطتها العملية والفنية وفي مجالسها ولجانها، إضافة إلى مختلف الانشطة النقابية والسهرات العائلية ومع جمع من الأصدقاء والمحبين..
وتأسيساً على ذلك كله يمكنني القول بأن خالد المز يتمتع بشخصية متميزة، يواجه بها مختلف الأمور والمواقف السلبية والإيجابية، بعفوية لافتة وبعقلانية تتميز بالطرافة لها نكهتها الخاصة، حيث أن روح الشباب لاتفارقه، لأنها تسكن جسده وروحه، وقد مرّ الزميل الفنان خالد المز بمراحل فنية، متنوعة، وهي في نظرنا عبارة عن محطات متلاحقة، يمكننا التوقف عندها باختصار، فمثلاً :
١- المرحلة الأولى : مرحلة ماقبل الدراسة في مصر ، وهي طبعاً مرحلة الاعدادي والثانوي التي عاشها في اللاذقية – مسقط رأسه، في عقد الخمسينات من القرن الماضي.. وأن تقييمنا لهذه الفترة المبكرة من حياته الفنية، هي أنه رسم وصور فيها الفنان الشاب الواعد، لوحات تعبر عن مواضيع شتى أهمها المناظر الطبيعية ، والطبيعة الصامتة ، والوجوه الآدمية – البورتريهات وعند تفحصنا لهذه الأعمال تتأكد لنا ظهور موهبته الفنية بشكل مبكر، وميله نحو الطبيعة والحياة، وتحسسه العفوي للمحيط الخارجي ومقدرته على التعبير عنه.
٢- المرحلة الثانية : مرحلة الدراسة في مصر- خلال النصف الأول من عقد الستينيات وقد تميزت هذ الفترة في وقوفه بشكل جدي ، وجهاً لوجه، أمام تحديات متطلبات الدراسة الأكاديمية، التي كانت سائدة آنذاك في كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان في القاهرة، حيث ظهرت فيها مواهبه الفنية على حقيقتها، فنمت وترعرت بسرعة وجنباً ألى جنب. مع زملائه في الدراسة، وفي تفوقه اللافت على معظمهم، وفي نهاية هذه المرحلة، ظهر تأثره بالفن الشعبي المصري، وبالفن المصري القديم، وبالفنانين المعاصرين من أساتذته وغيرهم، وذلك من خلال المواضيع الاجتماعية التي عالجها في تلك الفترة، وخاصة في مشروع التخرج، حيث سيطر الأسلوب الواقعي على أعماله في تلك الفترة، والمشحون ببعض المبالغات المستحبة شكلاً ولوناً وتعبيراً.
٣- المرحلة الثالثة : الواقعة مابين دراسته في كل من مصر وفرنسا، في النصف الثاني من عقد ستينات القرن الماضي، ويمكننا القول بأن معظم أعماله الفنية في تلك الفترة تميزة بتكويناتها المعمارية الصريحة، حيث أتت شخوصه فيه على شكل مجموعات وكتل نحتية نصبية متماسكة، واضحة المعالم بتعابيرها وبحضورها شكلاً ومضموناً.. وقد ظهر بعضها وكأنها روليفات جدارية ملونة، منفذة بمواد مختلفة، تظهر فيها شتى الايقاعات الضوئية واللونية، بحيث نتلمس فيها ملامح التعبير عن نكسة حزيران عام ١٩٦٧، والتي لم تكن اثارها غائبة عنه كفنان عربي سوري، وقد تكشفت في هذه الأعمال ميوله ومواهبه نحو فن النحت ونحو التقشف الواضح في استخدامه للألوان البراقة، حيث عبر عن مواضيع باللون الحيادي الواحد وتدرجاته حاراً كان أم باردً، كما وبدأت تظهر في هذه المرحلة ميوله نحو تقزيم الأشخاص وطريقة جمعها وتلاصقها أو تباعدها، والتي عادت إلى الظهور فيما بعد، وفي أكثر من مناسبة.
٤- المرحلة الرابعة : مرحلة الدراسة في باريس، والتي تمت في النصف الأول من عقد سبعينات القرن الماضي، وهنا بدأت تظهر في أعماله تأثيرات الاتجاهات الغربية الحديث في الفن التشكيلي كالتكعيبة والسريالية والتجريدية وغيرها مما شاهده وأعجبه في باريس، إلى جانب استمرار تأثره بالفن الشعبي المصري العفوي، إلى جانب الميل نحو التبسيط والتشكيل والزخرفة ، مع محافظته على الموضوع وأهميته البالغة بالنسبة له، حيث أصبح في هذه المرحلة ينسج لوحته نسجاً متجانساً متماسكاً شكلاً ومضموناً.
٥- مرحلة مابعد الدراسة في فرنسا : وهي الفترة التي امتدت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، وحتى اليوم،، وقد ترسخت فيها معالم نهجه الفني، فبالرغم من التقلبات الكثيرة التي مرّ بها خلال هذه الفترة، إلا أن هناك خيطاً واضحاً يربطها جميعاً.. ففي بدايات هذه المرحلة ركزّ على مواضيع أساسية أهمها الحمامات الشرقية بشخوصها الأنثوية، وبمبالغاتها المستحبة، وبحركاتها الخجولة، وبضبابيات عريها الجميل، تميس هنا، وتجلس أو تقف هناك، ضمن إيقاع رصين، وبين عناصر معمارية وزخرفية شرقية تلفها وتؤطرها.
كالأعمدة والقناطر والأقواس، إلى جانب الأرضيات المسقفة، التي توحي بالقريب والبعيد، في إشارة منه إلى البعد الثالث والمنظور الهندسي واللوني، ولكن ذلك كله يتم عن طريق استخدامه للرموز والمصطلحات الخاصة بذلك، متأثراً أحياناً بالفن المصري القديم وأخرى بالفن العربي والإسلامي. وفي الفترة اللاحقة من هذه المرحلة اكتفى برسم شخوص فتياته، معبراً عنها ضمن مساحات لونية تتدخل فيها هذه الشخوص لتشكل في النهاية تكويناً ذي إيقاع شاعري خاص، تنحصر أبطاله في شخوصة الأنثوية، والتي تضاعف عددها فيما بعد في اللوحة الواحدة، بعد أن كانت لوحته تحتوي على عدد محدود من الفتيات..
وهذا ينطبق حتى على المواضيع الأخرى التي عالجها خلال هذه المرحلة كالأمومة والطبيعة الصامتة والبورتريهات وغيرها، أو تلك التي جمع فيها مواضيع مختلفة في لوحة واحدة. ومن المهم في رأينا ، هو أنه رغم الفروقات الحاصلة هنا وهناك في مختلف أعماله الفنية، لكن تحكمها جميعاً في النهاية عناصر نهج فني واحد وعقلية واحدة وحسٍ متشابه إلى حد كبير، ففيها جميعاً يجيد الفنان خالد المز استخدام وتوزيع الغامق والفاتح، وكذلك الحار والبارد، ضمن إيقاعات شكلية ولونية تنم عن خبرات وقدرات لايستهان بها، إلى جانب اهتمامه الكبير بالتكوين العام وبحسن توزيع جميع عناصره ومفرداته، لأن ذلك، يشكل بالنسبة له أساساً لاغنى عنه لكل عمل فني ناجح، ومهما يكن من أمر، يبقى الحوار القائم بين الحار والبارد من جهة، والفاتح والغامق من جهة أخرى يداعب عين المشاهد ويدغدغ مشاعره وأحاسسيه، وخصوصاً عندما يرافق ذلك الغموض أحياناً والمبالغة الشكلية واللونية أحياناً أخرى..
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدكتور المز، ورغم استمراره لنهجه الذي تبلور في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أنه أخذ يجنح مجدداً نحو الماضي، حيث ازداد حنينه إلى تحويراته ومبالغاته التي ادت في نهاية الستينيات، وعادت مظـاهر التقزيم والإلتحام عنده بالظهور مجدداً، ليس في شخوصه الأنثوية وحسب، بل وفي بقية عناصر لوحته، ولكن بأسلوب تصويري وتعبيري جديد.. وخاصة ماأنتجه خلال إيفاده في عام ٢٠٠٢، عندما كان في مهمة البحث العلمي موفداً إلى أوماها في الولايات المتحدة الأمريكية..
ونخص بالذكر الثلاثية التي نفذها هناك بمادة الأكريليك، حيث وفق الزميل الفنان خالد المز بالتكوين العام، كما وفق بأشكالها وبألوانها المنسجم، وبالتحويرات وبالتداخلات والنقلات النوعية بين شخوصها وعناصرها. فجاءت لتعبر عنه كفنان أصدق تعبير، وفي رأينا، فقد لخصت هذه الثلاثية نهجه الفني الذي سار عليه فترة تزيد عن خمس وثلاثين ٣٥ عاماً.
وقبل الختام، لابد من التنويه بأن الفنان خالد المز لم يؤطر نفسه بأطر فنية جامدة، لامن حيث الأسلوب الفني المتبع ولا من حيث اهتماماته الفنية الأخرى، فقد مر كغيره من الكثيرين بنزوات تجاذبية يميناً وشمالاً، قاده بعضها إلى أن ينحو نحو الشكلانية العبثية، لكنه حتى وإن نجح في بعضها أو في معظمها، إلا أنه سرعان مااكتشف بأنها خرجت به من دائرة اهتماماته الأساسية، فتراجع عنها وعاد إلى داخله وإلى روحه وهاجسه الرئيسي الذي تبلور عبر السنين، والذي تمثل في حنينه الدائم لرسم وتصوير المرأة الأم والأخت والزوجة الحبيبة،، الخ فأصبح بحث فنان ملتزم ببعض مفردات واقعنا الجميل وشاعريته، التي اختارها وركزّ عليها خلال مسيرته الفنية الطويلة، لينسج من خلالها لوحته الفنية الخاصة والمميزة.
وهو بالإضافة إلى ذلك كله، فنان منفتح على الجميع، ويحب سماع الآخرين، والعمل بنصائح من يثق بهم وبآرائهم، كما ويحب الحديث عن نفسه ببراءه الطفل وعفويته ، وهكذا فإن الفنان الصديق خالد المز، يعتبر رفيق درب فني طويل، مليء بالمحبة والمرح وبالحيوية ولطف العشر، وإن مرونته وتقلباته السريعة والعفوية والمفاجئة أحياناً، كلها أمور تم عن عشقه الدائم للتجريب، كما وأنها انعكست بصدق في معظم أعماله الفنية، لأن هذه الخصال بمجموعها شكلت في النتيجة المعالم الهامة التي رسمت شخصيته الفنية المميزة. متمنياً له العمر المديد والإنتاج الوفير.
بقلم الفنان الدكتور عبد المنان شما